مريام ماكيبا.. أم أفريقيا
مريام ماكيبا.. أم أفريقيا و روحها. الكلّ في الجزائر يتذكّر “ماما أفريكا” صاحبة هذه الأغنية الشهيرة التي ألّفها الكاتب الجزائري الكبير “مصطفى تومي” سنة 1969 بتكليف من وزارة الثقافة خصيصا لهذه السيدة الجنوب أفريقية الرائدة التي عانت مع شعبها من نظام الفصل العنصريّ، الذي كان يستعبد السود في جنوب أفريقيا رغم أن البشرية كانت قد عرفت بمجملها معنى الانعتاق والتحرير وبداية انتهاء عصر الاستعباد، خصوصا في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.
ولادة ميريام ماكيبا
ولدت ميريام ماكيبا Miriam Makeba في الرابع من آذار/مارس سنة 1932 في جوهانسبورغ بجنوب أفريقيا لعرقين مختلفين، أطلقا عليها اسم “زينزي”، الذي يعني بلغة الزولو “لا تلومن إلاّ نفسك”، والدتها هي سوازي سانقوما، أما والدها فقد توفي وهي في سنّ لا تتجاوز الست سنوات. ميريام البنت اليتيمة التي عرفت الحرمان منذ الصغر، البنت التي أحبت الغناء، غنّت كطفلة لمعهد كيلميرتون في بروتوريا، وأخذت تصقل موهبتها إلى أن أصبحت شابة موهوبة، وجدت نفسها محرومة من رؤية بلدها سنة 1960 على اثر مشاركتها في الفيلم الوثائقي الشهير الذي حمل عنوان “ارجعي إلينا يا إفريقيا”، والذي يدين النظام العنصري في جنوب إفريقيا، إذ تمّ إلغاء مواطنتها وحقها في العودة لبلدها، سعت لحضور جنازة والدتها عام 1963 لكنها لم تتمكن من الدخول لوطنها، تعاطف معها الملايين فتجنّست بجنسية “الوحدة الأفريقية”، وكانت تقول عن نفسها أنّها صاحبة “المواطنة العالميّة”، وكانت تسمّي نفسها مواطنة العالم (citizen of the world)، إذ حازت “ماما أفريكا” علي تسعة جوازات سفر وتمّ منحها المواطنة الفخرية من عشرة دول أيضا، ورغم حصولها على تسع جنسيات أفريقية منها الجنسية الجزائرية سنة 1969، التي تسلمتها من الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين، بقيت “ماما أفريكا” مصرّة في الدفاع عن حقوقها المدنية، حيث وقفت في وجه نظام الفصل العنصري بصمود كبير إلى أن استردّت جنسيتها الأصلية في ثمانينيّات القرن الماضي، فتحوّلت هذه الفنانة الصامدة إلى ناشطة عالمية في مجال حقوق الإنسان، دافعت عن كلّ الذين حرموا مثلها من حقوقهم المدنية، وعلى رأسهم المطالبون باسترداد حقّهم في المواطنة الكاملة غير المنقوصة، بداية من جواز السفر، بيان الهوية الأول للمواطنين الأحرار.
ميريام ماكيبا … الفنانة المناضلة
لقّبت باسم “إمبراطورة الأغنية الأفريقية”، ويقال عنها أنها “المرأة التي لم تغنّي يوما للسياسة، بل تغني دوما للحقيقة”، ويعتبرها الكثيرون أول الرائدات في إطلاق موسيقى القارة السمراء نحو العالمية، وقال عنها الرئيس “نيلسون مانديلا” أنها تستحق لقب “ماما أفريكا” لأنها كانت أما وفية لأفريقيا الفتية المناضلة في معارك التحرير الأولى، وأنّ أغانيها أعطت لشعوب القارّة الأمل بالنصر والتحرير طوال ما يزيد عن ثلاثة عقود، لأنّ أغانيها التحررية حملت عبارات مؤثرة لا يمكن أن تنساها الذاكرة الإنسانية، وهي تغنّي عن ألم النفي والإبعاد والإقصاء عن بلدها وأرضها وشعبها وأهلها، كما يعتبرها الأمريكيون “أسطورة الموسيقى الأفريقية الحرّة”، التي ألهمت شعبها للنصر ضدّ نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، لأنّ ماكيبا كانت مصدر وحي وإلهام لشعب مقهور بسلطة السلاح، لتناضل إلى جانبه بقوة الموسيقى والفنّ، وينظر إليها العديد كأفضل مغنية على الإطلاق أنجبتها جنوب أفريقيا.
شقت ميريام ماكيبا طريق الشهرة في سنّ مبكّرة منذ خمسينيات القرن الماضي في الحفلات والأعراس المحلية، لكن موهبتها ما لبثت أن تطورت لتصبح أحد أهم الأصوات المناهضة للاستعمار ونظام الفصل العنصري، دفاعا عن أبناء بلدها وجلدها ولونها في القارة السمراء التي عانت كثيرا تحت نير القوى الغاشمة للاستدمار القديم، ومنها سلطة نظام بريتوريا للفصل العنصري، حيث لفتت هذه المرأة الحسناء المشهورة بغنائها الثوري أنظار السلطات في بريتوريا، فتقرر نفيها إلى خارج جنوب أفريقيا، لتجد العالم الأفريقي يفتح ذراعيه لها بالترحيب والضيافة، كما قادها القدر للتعرّف هاري بلافونت في لندن، إذ أنّه هو من الذي ساعدها لدخول حياة الشهرة والاحتراف في الغناء، ثم انتقلت معه إلى الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1956،وكانت بداية سنوات الصحوة الحقوقيّة الكبيرة لأبناء حركة الزنوجة الأمريكية بقيادة أليجا محمد ومالكوم أكس ومارتن لوثر كينغ وآخرين، فغنّت ماكيبا المحبّة للفنّ في ظروف جدّ صعبة، ففي سنة 1959 قدمت موسيقي فليم “كينغ كونغ” وكسبت القليل فقط من الدولارات عن كل عرض دون نيل حقوق الملكية، وفي الولايات المتحدة غيّرت اسمها من “زينزي ماكيبا” إلى “ميريام”، وأصبحت “ميريام ماكيبا” عضوا مهما في المجموعة الأمريكية الغنائية الشهيرة “منهاتن براذرز” Manhattan Brothers، وحققت معها نجاحا فنيا باهرا، قبل أن تؤسس فرقتها الخاصة “سكايلاركس” Skylarks التي لم تكن تضم سوى النساء، اشتهرت ماكيبا آنذاك بأغانيها الرائعة التي امتازت بالطابع أفريقي، حيث اعتادت على استخدام الألحان التقليدية لأفريقيا وأضافت لها طابع “الجاز” الشهير، ونجحت بأغنيتها الشهيرة “باتا باتا” Pata Pata التي كتبتها سنة 1956 وأعادت أداءها بأسلوب عصريّ في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1967، ولم تكن تظن أنّها ستجلب لها تلك الشهرة غير المسبوقة، لتتناقلها الأجيال المحبة لماكيبا جيلا بعد جيل، كما غنّت عام 1962 بمناسبة عيد ميلاد الرئيس الأمريكي الراحل جون .أف. كينيدي رفقة “هاري بيلافونت” الذي كان قد تولّى رعايتها منذ بداياتها الأولى، وأخذت تشق طريقها إلى النجومية إلى أن منحت “جائزة غرامي” سنة 1966 عن إحدى مجموعاتها الغنائية التي سلطت الضوء على معاناة شعبها تحت نير النظام العنصري.
أصدرت ماكيبا أكثر من ثلاثين أسطوانة تضمنت العديد من الأغنيات الشهيرة، منها أغنية “باتا باتا” Pata Pata و”ذ كليك سونغ” The Click Song و”مالايكا” Malaika.
سرّ تفوق هذه المرأة هو وفاؤها المستمرّ لشعبها وقضيته العادلة بسبب إصرارها على مناهضة التمييز العنصريّ في كلّ بقاع الأرض رغم الصعوبات التي واجهتها، ففي عام 1959 فوجئت ميريام ماكيبا بقرار السلطات الإيطالية منعها من المشاركة في مهرجان البندقية “فينيسيا”، حيث أبلغت بأنّها غير مرغوب بها على الأراضي الإيطالية بسبب مشاركتها في الفيلم الوثائقي الشهير “عودي إلينا يا أفريقيا” Come Back, Africa عن نظام الفصل العنصري، كما أدّت مريم العديد من الأدوار التي تسير في نفس سياق نضالها الإنسانيّ، منها دور هامّ في أحد الأفلام الموسيقيّة والذي حمل اسم “سارافينا”، وبلغت ماكيبا درجة الذروة في تحدّيها لنظام بريتوريا العنصريّ بإدانته في الأمم المتحدة سنة 1961 عندما قصّت حكايتها المأساوية أمام الملايين من على منبر الأمم المتحدة، وكما سجلت مشاركتها في إحياء حفلات استقلال معظم الدول الأفريقية، ما اكسبها لقب “أم أفريقيا” عن جدارة.
شاركت ميريام في المهرجان الثقافي الإفريقي الأول بالجزائر سنة 1969، وكانت تحمل حبّا كبيرا للجزائر وشعبها، إذ غنّت الأغنية الشهيرة “أنا حرّة في الجزائر” التي ألفها الفنان الكبير “مصطفى تومي”، وعرفت أيضا بأدائها للأغنية الخالدة” أفريكا” في ثنائي مع الفنان الجزائري المعروف “محمد العماري”، وكان موضوعها معاناة وبؤس شعوب أفريقيا.
ماما أفريكا … ألم الفراق والوحدة
عاشت ميريام ماكيبا مع عازف البوق الجنوب أفريقي “هيوغ ماسيكيلا”، ثم تزوجت في الولايات المتحدة الأمريكية من السياسي الشهير “ستوكلي كارمايكل” زعيم “حركة الحقوق المدنية الراديكالية” التي كانت تدعى “حركة القوة السوداء” أو “الشركاء السود”، ونتيجة لهذا الارتباط، أحاطت المشاكل ميريام ماكيبا في الولايات المتحدة بسبب زواجها من كارمايكل”، وكان ذلك سببا كافيا لمنع بعض حفلاتها الموسيقية وعدد من العقود الفنية الأخرى، حيث اعتبرت واشنطن ماكيبا وكارمايك غير مرغوب فيهما في الولايات المتحدة الأمريكية، فلجأ الاثنان إلى غينيا سنة 1973 قبل أن ينفصلا هناك.
وفي غينيا شهدت ميريام مأساة وفاة ابنتها الوحيدة بونجي، التي أنجبتها من زواج سابق وهي في سن السابعة عشرة، وأثّر فيها وفاة ابنتها بونجي كثيرا، حيث قررت سنة 1985 الرحيل إلى بلجيكا أين قرّرت الاستقرار في بروكسل، وقررت ماكيبا كتابة مذكراتها في بوركسل بعنوان “قصتي”، بعد تحقيقها للنجاح الفنيّ الكبير عقب الجولة الفنية الناجحة التي قامت بها رفقة “بول سيمون” سنة 1987.
ميريام ماكيبا … سفيرة مزدوجة للفنّ والقارة السمراء
استقطبت ماكيبا اهتمام العديد من رؤساء الدول ممن حرصوا على حضور حفلاتها الوطنية، من بينهم الرئيس الفلسطيني الراحل “ياسر عرفات” الذي كان محبّا لفنها الهادف وتأييدها الواضح للقضية الفلسطينية، كما كان الرئيس الجزائريّ الراحل هواري بومدين يحثّها على مواصلة نضالها في سبيل استكمال تحرير ما تبقّى من الدول الأفريقية المحتلّة، واصلت ماكيبا الغناء في أفريقيا وأوربا وأمريكيا الجنوبية، كما يتذكرها الملايين عندما غنّت سنة 1974 في مبارة الملاكمة الشهيرة بين محمد علي كلاي وجورج فورمان والتي أقيمت في زائيير.
لم تعد ميرام إلى جنوب أفريقيا إلاّ سنة 1991 بعد أن أطلق سراح الزعيم الكبير “نيلسون مانديلا” الذي أقنعها بالعودة على إثر سقوط نظام الفصل العنصريّ، وعادت ميريام ماكيبا إلى بلدها بجواز سفر فرنسي كان أحد الجوازات العديدة التي حصلت عليها من العديد من الدول من أفريقيا وخارج أفريقيا، وأقامت في الضاحية الشمالية لجوهانسبورج حيث كان يحييها الناس يوميا بسؤالها: “كيف حالك ماما أفريكا؟”.
أسست “أم أفريقيا” ببلدها “مركزا لإعادة تأهيل المراهقات المتشردات”، وخاضت حملة شرسة ضدّ أشكال الظلم الممارسة ضدّ هذه الفئة المهمّشة من النساء، ولم تشعر هذه المرأة التي تصدّت طوال حياتها للتمييز العنصري بسلاح الغناء، بالتعب أو الإعياء من النضال إلى جانب الكادحين والمحرومين والمستعبدين إلى أن رحلت روحها الطاهرة.
رحيل “ماما أفريكا”
قالت “ميريام ماكيبا” في جولتها الفنية الأخيرة في العالم سنة 2005:
“يجب أن أذهب إلى العالم لأشكره وأودّعه.. بعد ذلك، سأبقى في بيتي مثل جدة ..، و أريد أن ينثر رمادي في المحيط الهندي لأتمكن من الإبحار مجددا إلى كل هذه الدول”.
توفيت “ماما أفريكا” -رغم اعتزالها الفنّ- بطريقة عجيبة، إذ بقيت تناضل إلى آخر حياتها إلى جانب الفنانين كما وقفت إلى جانب المظلومين والمقهورين، فقد فارقت الحياة في سنّ 76 على إثر أزمة قلبية، حيث آلت على نفسها المشاركة في حفل دعم الكاتب الايطالي “روبرتو سافيانو” الذي هدّدته المافيا الايطالية بالاغتيال، ونزل خبر وفاتها كالصاعقة على محبيها الذين لم ينسوا نضالها الطويل، فحتى وزارة الخارجية الأمريكية خرجت إلى مواطنيها لنعي “أم أفريقيا” المناضلة، حيث حازت هذه المرأة الفنانة على اعتراف واحترام الكبار قبل الصغار، وإعجابهم بطريقة دفاعها عن حقها في الحياة، كريمة عزيزة، وكان لها ما أرادت، حيث انتصرت هذه المرأة على الهيمنة بمجرد انهيار نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وكانت مؤازرة دائما للشعوب المستضعفة، وفي مقدّمها حقوق الشعب الفلسطينيّ في استعادة أرضه وعودة المهجّرين إلى بيوتهم، واستردادهم لحقوقهم التي لا يمكن أن تدفن مع طيّ صفحات التاريخ بسهولة كما يظنّ المستدمرون، فرحمك الله يا مريم.